*ما المستفز المُستنكر في ذلك المطلب العادل، المدعوم بألف سببٍ وشاهد؟
*في كل دول العالم المتحضرة يُسند أمر إدارة كل مدارج الحكم، التنفيذي منها والسيادي، إلى رؤساء أكتافهم ليست مرصَّعة بالدبابير، وفيها يخضع الجيش لإمرة مدنيين، يمتلكون سلطةً إعلان الحرب، وينال رئيس الحكومة المدنية صفة القائد الأعلى للجيش، فهل اعتبر أحدٌ ممارسة مدنيين لتلك الصلاحيات استفزازاً للجيوش، أو عدَّها انتقاصاً من قدر العسكريين؟
*لم يُنكر أحدٌ دور الجيش في الثورة الحالية، وقد كتبنا مؤكدين أنه لم يتطفَّل عليها، وأثبتنا أنه حماها، وبذل الدماء، وقدَّم الشهداء والجرحى في ساحاتها، ونوَّهنا بجرأة قادته، الذين حملوا رؤوسهم على أياديهم، عندما قرروا خلع الرئيس السابق، استجابةً لمطالب الشعب الثائر.
*تلك حقائق ثابتة، ليس بمقدور اللجوج أن يقفز فوقها ليُنكرها، لكن الثابت الأبرز يتعلق بحقائق أخرى أشدُّ رسوخاً، وأوفر بياناً، مفادها أن مسيرة النضال المدني لاستعادة الديمقراطية وإسقاط الطغيان في السودان استمرت ثلاثين عاماً، تُشكِّل في مجملها كامل فترة حكم الإنقاذ، وأن الشعب السوداني قدم أرتال الشهداء، وأفواج الجرحى والمعتقلين، قبل أن يتوِّج نضاله بانتفاضةٍ عارمةٍ، شهدت جرأةً وشجاعةً وإقداماً وإصراراً على الانعتاق، أدار الرؤوس، وبهرَ العالم أجمع.
*بتلك الخلاصة تعتبر مطالبة الجيش بتسليم السلطة للمدنيين أمراً طبيعياً لا استفزاز فيه للعسكر ولا شطط.
*وبمقياس ما يجري في العالم تُعَد الدعوة إلى تكوين سلطة مدنية أمراً موضوعياً، لا يستغربه إلا من يهوون صناعة الطواغيت.
*تداول السلطة بين المدنيين سهلٌ وميسور، تحكمه صناديق الاقتراع، وتبتُّ فيه الشعوب، وتستخدم فيه الأوراق، وانتزاع السلطة من العسكر دونه خرط القتاد، وعادةً ما يكون مهره الدماء، وعنوانه الخراب والحاجة إلى احتضان الرصاص في الصدور، ثمناً للتغيير، ولنا في ما حدث ببلادنا خلال العقود الثلاثة الأخيرة ألف دافعٍ يجعلنا نساند الدعوات الرامية إلى تكوين سلطة مدنية في مستويات الحكم كافةً.
*لم يطلب أحد إقصاء الجيش عن حياض السلطة بالكامل، بل تحدثت الغالبية عن تكوين مجلس سيادة مشترك، ينال فيه الجيش تمثيلاً مُقدَّراً، يتناسبُ مع التحديات الأمنية المُعقَّدة التي تواجه بلادنا حالياً، وذلك يدفعنا إلى التساؤل مجدداً: أي الحزبين أوفر شططاً، وأوفر دكتاتوريةً من الآخر؟
*من يدعون إلى مقاسمة العسكريين السلطة مع احتفاظ المدنيين بالغالبية في مجلس السيادة، أم من يرفعون عقائرهم مُطالبين بإسناد الأمر كله إلى العسكر؟
*في العادة ينحصر تأهيل العسكريين على تلقِّي العلوم القتالية، عبر الدورات الحتمية لقادة الفصائل والكتائب والألوية، ويتدرَّج ليشمل نيل درجة الماجستير في تلك العلوم (أركان حرب)، وبالتالي هم غير مُعدِّين أصلاً لتولي إدارة الملفات الأخرى المتعلقة بأمور الحكم، مثل العلاقات الخارجية والصحة والتعليم والزراعة والصناعة والتجارة وخلافها، بوجود مدنيين يمتلكون مؤهلات عليا، وخبرات نوعية في تلك المجالات، لذلك يبدو طبيعياً أن تتم مطالبة العسكريين بالانصراف لشغل ما يجيدونه، وما تم إعدادهم وتأهيلهم وتدريبهم لإنجازه، ليتركوا إدارة بقية شؤون الدولة لأهل الخبرة والتخصص.
*لا تحوي المطالبة بتكوين سلطة سيادية مدنية أيَّ استفزازٍ للجيش، لأن الطبيعي في مهام الجيوش أن تتولى حراسة التراب، وحماية الثغور، والدفاع عن الشعب، لا أن تحتكر شؤون الحكم، وتتغول على السلطة، دوناً عن بقية طوائف الأمة.
*لذلك نتساءل من جديد عن مسوغات حديث السيد الصادق، ومسببات اعتباره مطالبة الجيش بتسليم السلطة لمدنيين استفزازاً للعسكريين.
*ما المستفز الغريب في تطبيع الأمور، وإسنادها إلى أصحاب الحق الأصيل، الذين سبقوا الجيش إلى سُوح الثورة، وسهَّلوا لقادته خلع المخلوع؟